“رحلات عبر المغرب”* لعلي باي (ضومينغو فرانثيسكو بادي)


صدر بمدينة طنجة عن منشورات ليطوغراف كتاب “رحلات عبر المغرب” للرحالة والمغامر الإسباني (ضومينغو فرانثيسكو بادي)Domingo Francisco Badia – المعروف في العالم العربي باسم علي باي العباسي الحلبي- في طبعة أنيقة وترجمة متألقة أنجزها الباحث الأديب والمترجم المغربي الدكتور مزوار الإدريسي، وهي ترجمة اقتصرت على الجزء الذي اهتم فيه الرحالة بالمغرب الأقصى دون البلاد الأخرى التي تتحدث عنها رحلة علي باي في سفرها الكامل. فما الذي أثار الرحالة من عوائد وأوضاع في مغرب القرن التاسع عشر؟ وهل تكشف الرحلة عن بواعث تجسسية ودوافع استعمارية لدى الرحالة المغامر؟
إن من يقرأ رحلة علي باي العباسي يكاد يتفق مع الاستنتاج الذي انتهى إليه المترجم في قوله: ” لن يغيب عن المتمعن في نص الرحلة كونها سفارية علمية في أساسها، وأن الهاجس السياسي التجسسي لم يكن له من أهمية سوى التمويه على المركز السياسي بمدريد بحثا عن الدعم المالي. بل إن القراءة الناقدة لتكشف عن افتتان بالمغرب، ووله بطبيعته، وتقدير لعاداته وتقاليده، وإجلال لدينه، إلى درجة يكاد ينتفي معها وهم التجسس الذي أشيع عن صاحب الرحلة، وإن كان علي باي لم يتخل عن انتقاد نظام الحكم المستبد والأحوال الاجتماعية المتردية…”(مقدمة المترجم، ص.6)
فعلا، تكشف القراءة المتمعنة في الرحلة عن اهتمامات علمية معرفية وشغف كبير بالبحث والتقصي لدى الرحالة الذي تميز بشخصية متعددة المعارف متنوعة المهارات؛ فقد كان علي باي على اطلاع واسع في علم النباتات والأركيولوجيا والفلك والعمران والجغرافيا والمناخ، إلى جانب اهتمامه بالموسيقى والرسم والتاريخ والسياسة والمجتمع والترجمة. وكل هذه الاهتمامات تنعكس جلية في رحلته عبر المغرب، إذ يسجل كل ما يصل إلى سمعه وما يقع عليه بصره وما يدركه من خلال تجربته الشخصية في كتابه. وبذلك، فإن ما أثار الرحالة في المغرب يشمل الطبيعة والفلك والمناخ والمجتمع والطبخ…وما يسجله من ملاحظات، وما يسرده من وقائع وأحداث، وما يصفه من مشاهد ومشاهدات يكشف عن أثر معرفته الموسوعية التي كانت تحركه وتدفعه إلى تصوير ما يجري تحت سمعه وبصره بكل دقة وموضوعية تارة، وبنوع من الغمز واللمز تارة أخرى. وبذلك، فإن الجوانب التي يصفها في موضوعية وحياد ودقة تبين عن الجانب المعرفي للرحلة وعن الإعجاب ببعض عادات أهل المغرب وثقافتهم، غير أن الجوانب التي انتقدها وسخر منها تكشف عن نظرة استعلاء واضحة إلى المغاربة وعن احتقار لواقع الحال الذي كان يمر به المغرب خلال زمن الرحلة.
إن من يتأمل الرحلة يلفي النظرة الاستعمارية المتمركزة على الذات الأوربية- باعتبارها مصدرا للمعرفة والحضارة- حاضرة بكثافة. إن تصوير تضخم ذات الرحالة وتركيزها الشديد على أفعالها وحظوتها الاجتماعية وتقربها من ذوي النفوذ ومن السلطان تجسد مدى الرؤية النرجسية للمغامر والمثقف الأوربي الذي مهد السبيل لجحافل الاستعمار بكتاباته ومونوغرافاته وملاحظاته التي كانت تتوخى الدقة والموضوعية لتكشف واقع البلاد التي ينوي السياسي احتلالها، وهذا البعد بؤرة رحلة علي باي عبر المغرب. وقد كشفت نهاية الرحلة وطريقة خروج علي باي من المغرب عن مفارقة تفضح حاله وتعبر عن مآله لدى المجتمع الذي قربه ورفعه، ثم لما انكشفت له حقيقة أمره قلب له ظهر المجن. إن الصورة التي تنتهي بها الرحلة في المغرب وكيفية الخروج منه تبين عن ذكاء حاد لدى المغاربة وإدراك لخطورة مثل هذه الشخصيات الغريبة المغامرة. يقول علي باي مصورا لحظة رحيله من المغرب من ميناء العرائش في مركب يتجه إلى طرابلس/ ليبيا:
“…وبما أن الزورق وصل ولم يصل الباشا، فقد استعددت للركوب، وفي تلك اللحظة وصلت مفرزتا جنود، ودخلت مفرزة جنود أخرى من الزقاق. هكذا استولت المفرزتان الأوليان على كل ناسي، والمفرزة الأخرى طوقتني وأمرتني بالركوب وحدي، وبالذهاب فورا. سألت عن سبب هذا الإجراء الغريب، فردوا علي:”إنه أمر السلطان”. سألت عن الباشا، فقالوا لي بعجرفة:”اركب من فضلك”. حينئذ بدت لي واضحة سوء نية السلطان والباشا اللذين أمرا حتى اللحظة الأخيرة أن تقام لي المراسيم الكبرى من قبل فيالق الجيش والشعب، بينما كانا يفكران في الضربة التي يفترض أن تجرحني وتصيبني في الصميم(…)وقد وصلت شبه فاقد للوعي إلى المركب الذي كان راسيا على مسافة قصيرة خارج الحاجز. وبمجرد صعودي إليه، تم اقتيادي إلى القمرة ووضعي على السرير. لقد غادرت سلطنة المغرب بمثل هذه الصيغة…”(ص.230)
يعبر هذا النص عن الحالة المزرية من الاحتقار والذل التي غادر بها الرحالة أرض المغرب بعدما انكشف سوء طويته لدى السلطان الذي قربه وكرمه، وهذه الخاتمة، ولا شك، لا تتصل بانتقاده للأوضاع الاجتماعية المزرية ورفضه لممارسات الحكم المستبد، لأن هذا النقد لاحق على فترة الزيارة تمثل في تدوين الرحلة وكتابتها، أما لحظة وجود الرحالة بالمغرب- وحسب ما يحكيه في رحلته- لم يكن يجرؤ على النقد والتجريح لا سرا ولا جهارا، وبذلك، فإن الواقعة التي يختم بها رحلته في المغرب تكشف عن نوع من الوعي الذي تميز به المغاربة في تعاملهم مع الأجانب ذوي الشخصيات الغامضة المغامرة، وربما تكشف عن تفطن السلطة إلى جاسوسيته، ومن ثم أُخرج من المغرب مذموما مدحورا .
والمتأمل في سِفر الرحلة يجد إلى جانب الإعجاب بطبيعة المغرب ومناخه وبعض عاداته تحاملا واضحا على عادات أخرى وعلى موسيقاه وعمران مساجده وبيوته، وجهلا واضحا ببعض مقوماته الدينية وأحكامه الفقهية على الرغم من أن علي باي قدم صورة دقيقة عن الصلاة والصوم وبعض الشعائر الدينية الإسلامية. بل إن الرحالة- كدأب عدد كبير من الرحالة والمستشرقين الغربيين- يهرف بما لا يعرف، أحيانا، مقدما حقائق للإنسان الغربي لا علاقة لها بالدين الإسلامي، على سبيل المثال يقول أثناء وصفه لمدينة العرائش:
“..ومسافة ستمائة طويسة إلى شرق الجنوب الشرقي للقصر المربع يوجد ضريح امرأة ولية، هي شفيعة المدينة، وتسمى للامنانة، قبرها يبجل هنالك. وأبدا لم أتمكن من أن أحل عقدة الأفكار التي أثارتها في ذهني مسألة وجود امرأة تُقدس، بينما هي تستثنى من الجنة صراحة بحكم الشرع اعتبارا لجنسها….”(ص.227)
وهذا مثال من أمثلة كثيرة تدل على نقص في المعرفة بحقائق الإسلام وتحامل يستند إلى حكم متسرع ويقين مغلوط. فمتى استثنى الشرع المرأة من الجنة اعتبارا لجنسها؟ وهل لا يوجد في تاريخ الإسلام نساء مبجلات غير للامنانة العرائشية؟
وعلى الرغم من أن رحلة علي باي لا تخلو من نظرة استعلاء أوربي، ومن معلومات مغلوطة، ومن تحامل على المغاربة وبعض عوائدهم وأسس ثقافتهم؛ فإنها تظل سفرا هاما للباحث في تاريخ المغرب وللباحث الاحتماعي والجغرافي والمهتم بعلم النباتات وبالعمران، كما أنها نص ممتع في طريقة سرده لوقائع الرحلة وملابساتها لا يخلو من لمسات أدبية حكائية مشوقة تشد القارئ وتحفزه على التهام صفحات الكتاب التهاما، ولعل الترجمة المبدعة ساهمت بقسط جلي في هذه المتعة التي يستشعرها القارئ بين طيات الكتاب.

طنجة الغالية في السابع من رمضان 1429 هـ

ضع ردك هنا